خطورة الفتن والتحذير منها
سماحة الإمام الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز : الحمد لله رب
العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين . وبعد : فإن
الفتن لا شك أنها موضوع خطير ، وهي تكون بالقتال ، وتكون بالشهوات ، وتكون
بالشبهات ، وتكون بالجميع ، نسأل الله العافية . وقد ثبت عن رسول الله -
عليه الصلاة والسلام - أنه قال : ( تكون فتن القاعد فيها خير من القائم ،
والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي ، من يستشرفها تستشرفه ) .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : ( بادروا بالأعمال الصالحة فتنًا كقطع
الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ، ويُمسي كافرًا ، ويُمسي مؤمنًا ،
ويصبح كافرًا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا ؛ وفي لفظ : بعرض من الدنيا قليل
) .
ونحن في هذا الوقت ، وكذلك مضت أوقات أيضًا وقع شيء منها كثير
فيما مضى ، ولكن في هذا الوقت أكثر ، فتن الشبهات ، وفتن الشهوات ، وفتن
القتال ، كلها واقعة .
فالشهوات المغرية بالمعاصي والمحارم كثيرة .
شهوة المال . شهوة الفاحشة . شهوة المسكرات . شهوة الملاهي . شهوة سفك
الدماء . إلى غير ذلك ، شهوات متنوعة ، وشهوة المال والمآكل والمشارب تفضي
إلى الترف والكسل والضعف ، وعدم المقاومة لما يعرض للناس مما يضرهم في
دينهم ودنياهم ، وتفضي إلى الميل إلى السعي للمحرمات . فإذا رزق الناس
المال وقدروا على مطالبهم من هذه الشهوات المحرمة ، فالعصمة قليلة ، فمن
ابتُلي بالمال الكثير ، ولا سيما مع قلة العلم ، وقلة البصيرة ، وقلة
العقل الراجح ، وقلة الأخيار وصحبة الذين يوجهون إلى الخير ، وكثرة
المنحرفين ، والذين يقودون الناس إلى أسباب الهلاك .
من هذه الأسباب
يعظم الخطر ، وتكثر المصائب في الدين ، قال - جل وعَلا - : ﴿ وَاتَّبَعَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ . [ هود
: 116 ] . فالترف له عواقب وخيمة ، في الملبس ، والمأكل ، والمشرب ،
والمركب ، والمسكن ، وغير ذلك ، وهو يفضي إلى غايات خطيرة بانتهاك محارم
الله ، والضعف عن أداء ما أوجب الله ، واقتحام الحدود ، وعدم المبالاة
بخطر العقوبات ، وبغضب الله - عز وجل - ، قال - سبحانه - في كتابه الكريم
: ﴿ كَلاَّ إِنَّ الأِنْسَانَ لَيَطْغَى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ . [
العلق : 6 - 7 ] . وثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : ( والله ما
الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم الدنيا ، أن تُبسط عليكم كما بُسطت
على من كان قبلكم ، فَتَنافَسُوها كما تَنافَسُوها ، فتهلككم كما أهلكتهم
) .
فالواجب على كل مؤمن أن يحذر الفتن من الشهوات والشبهات ، قال -
عليه الصلاة والسلام - : ( يتقارب الزمان ، ويفشو الزنا ، ويُشرب الخمر ،
ويقل العلم ، ويظهر الجهل ، ويكثر الهرج ، قيل : يا رسول الله ، وما الهرج
؟ قال : القتل القتل ) .
في آخر الزمان تكثر أسباب القتال والفتن ،
والقتل بغير حق ، باب العدوان والظلم ، وهذا واقع في نواحي كثيرة من هذه
الدنيا . ومن أسبابه : الظلم والعدوان ، وحب المال والجشع في تحصيله وجمعه
من الدول والأفراد : - من الدول : الجشع على المال من أنواع المعادن ؛
كالبترول وغيره - ، ومن الأفراد : كذلك يُفضي بهم إلى السرقات ، والخيانات
، والغش في المعاملات ، وغير هذا من أنواع الضرر والظلم ، الذي من أسبابه
الجشع على المال والحرص عليه .
وأما فتن الشبهات ، فأشد وأخطر . فإن
الإنسان بسبب الشبهة كثيرًا ما يخرج عن دينه بين وقتٍ وآخر ، يصبح مؤمنًا
، ثم تعرض له شبهة في جريدة ، أو في كتاب ، أو من طريق مجادل ومناظر
ومخاصم فيضل ويخرج عن دينه بسبب ذلك .
والشُّبَه أنواع متنوعة : بعضها
يتعلق بالله - سبحانه - . وبعضها يتعلق بالرسل - عليهم الصلاة والسلام - .
وبعضها يتعلق بالقرآن . وبعضها يتعلق ببعض الواجبات . وبعضها يتعلق ببعض
المحرمات . إلى غير ذلك . فلا يزال به أعداء الإسلام يجادلونه ، ويبذرون
في قلبه بذور الشر ، ويشككونه في دينه ، ويقولون : لِمَ كذا !؟ ولِمَ كذا
!؟ ولِمَ شُرِع كذا !؟ ولِمَ صار كذا !؟ وأين كذا !؟ وأين الدليل على كذا
!؟ حتى يضل عن دينه ، وحتى يهلك بجهله بالله ، وجهله بدينه ، ولاستيلاء
هذه الشبه على قلبه ، حتى لا يجد لها دافعًا من قلبه ، ولا يجد لها حالاًّ
ومنقذًا من مجالسيه ، ومن أصحابه الذين يسمع لهم ويثق بقولهم ؛ لأن
الأصحاب والجلساء يغلب عليهم في هذه الأوقات الأخيرة الجهل وقلة العلم ،
ويغلب عليهم أيضًا إيثار الشهوات ، وحب العاجلة ، والإعراض عن الدين ،
واستثقاله ؛ لأن دين الله يقيدهم عما حرم الله ، وهم يجدون في الدين ما
يقيدهم عن الزنا ، وما يمنعهم من شرب المسكرات ، وما يمنعهم من أخذ المال
بغير حق بالرشوة ، والخيانة ، والغش في المعاملة ؛ فلهذا يستثقلون الدين ،
ويودون التملص والتخلص منه ، حتى يشبعوا رغباتهم من هذه الشهوات المحرمة .
فهذه كلها فتن ، حذر منها النبي - عليه الصلاة والسلام - فتن الشبهات ،
وفتن الشهوات ، وفتن القتال ، وأسباب القتال ، ولهذا قال - عليه الصلاة
والسلام - : ( بادروا بالأعمال الصالحة فتنًا كقطع الليل المظلم ، يصبح
الرجل فيها مؤمنًا ، ويُمسي كافرًا ، ويُمسي مؤمنًا ، ويصبح كافرًا ، يبيع
دينه بعرض من الدنيا ) ، والعياذ بالله .
ومن أعظم الأسباب التي تقي
العبد شر هذه الفتن ، وتسبب نجاته وسلامته : إقباله على كتاب الله تلاوةً
وتعقلاً وتدبرًا ؛ فإنه يجد في كتاب الله الدعوة إلى أسباب النجاة ،
والتحذير من أسباب الهلاك . يجد في كتاب الله الدعوة إلى مكارم الأخلاق
ومحاسن الأعمال . يجد في كتاب الله الأدلة القاطعة على وجود ربه ، وعلى
أسمائه الحسنى ، وعلى صفاته العلى ، وعلى استحقاقه للعبادة والطاعة . ويجد
في كتاب الله الأدلة القاطعة على صحة ما جاءت به الرسل - عليهم الصلاة
والسلام - ، وأنهم حق من عند الله - عز وجل - . يجد في كتاب الله الدلالة
القاطعة والبراهين الساطعة على إثبات الآخرة ، والجنة والنار ، والبعث
والنشور ، وأن ذلك حق . فإذا تدبر مع ذلك أحوال العالم ، وأن هذا العالم
فيه الضال ، وفيه المهتدي ، وفيه الظالم ، وفيه الجاهل ، وفيه العالم ،
وفيه أنواع الفساد ؛ عرف أن هذا العالم لا بد له من منتهى ، ولا بد له من
غاية ، ولا بد له من لقاء مع ربه ، يجازي فيه المحسن بإحسانه ، والمسيء
بإساءته .
كثير من هؤلاء الذين ظلموا الناس ، وأكلوا أموالهم بغير حق
، واعتدوا على حقوقهم . كثير منهم يموتون ولم يؤخذ منهم الحق ، فلا بد لهم
من يوم ومكان تؤخذ منهم الحقوق فيه ، ويُنصف المظلومون منهم ، ويُلزمون
بأداء الحقوق ، وذلك اليوم هو يوم القيامة ، هو يوم الحشر والجمع ، هو يوم
التغابن ، كما قال - جل وعَلا - : ﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً
عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ
فِيهِ الأَبْصَارُ ﴾ . [ إبراهيم : 42 ] . وقال - جل وعَلا - : ﴿ فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ . [ الزلزلة : 7 - 8 ] ، وقبلها قوله - جل وعَلا
- : ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴾
. [ الزلزلة : 6 ] ، فلا بد من عرض أعمالهم ، ولا بد من جزائهم عليها .
وقوله - جل وعلا - : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ . [ النحل : 97 ] .
ويقول - جل وعلا - : ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ
وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ . [ الإسراء : 7 ] .
فالمقصود أن هناك موعدًا مع الله - عز وجل - يجازي فيه - سبحانه - المحسن لإحسانه ، والمسيء لإساءته .
فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاستعداد ، والحذر من الفتن ، والإقبال على كتاب الله - عز وجل - ، والعناية بذلك .
ومن أسباب النجاة : العناية بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإقبال
عليها ، والنظر في سيرته - عليه الصلاة والسلام - ، وسيرة أصحابه الكرام -
رضي الله عنهم وأرضاهم - ، وسيرة سلفنا الصالح ، الذين درسوا كتاب الله ،
وتعقلوه ، وتدبروه ، وعملوا به ، ودرسوا السنة وعظموها ، وانقادوا لها ،
وساروا على ضوئها في حياتهم ؛ فإن في دراسة ذلك ما يعين على الأخذ بها ،
والتمسك بها مع كتاب الله - عز وجل - ، وفي الإعراض والغفلة عن ذلك ما
يسبب الهلاك والوقوع في حبائل ومكائد الشيطان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله
!